رسلان الحبونيدعاه الملوك وتقرّب إليه الأمراءهو رسلان حمد صالح الحبوني .. ولد بضواحي البردي سنة 1926 وشبّ في نفس المنطقة .. أخذ تربية الصقور عن والده حمد الذي كان صقّار مشهورا بالبطنان وولع بتربية الصقور منذ صغره ..وكان هذا الوالد أيضا مغرما بتربية الصقور وتدريبها .. لُقب منذ صغره بـ(حمد الصيد) لكثرة ما يشاهد وهو يحمل صقره على يده ، ولم يفارقه هذا اللقب طيلة حياته .. كان كثيرا ما يروي أهازيج الصقور ، ومنها :جليتله في عفا دير مقابيل نزوة عبانة .. خذا راسه ما تحيّر والجوجي قعد في مكانة..ومما يردده أيضا حاحيتله ما عنابي |
امتبع جلاوي أعيونه |
كما عبد يرقى ابلمقاط |
أو حال غيم لمزان دونه.. |
قضى حياته في البراري البطنانية مستمتعا برحلات الصيد في
سهولها وأوديتها تحت سمائها الصافية مصطادا الحباري والأرانب والكراوين .. يلتقي
حسناوات البادية على موارد المياه متغزلا متباهيا بنفسه ، يحمل صقره كأمير مدلل ..
هكذا كان اختياره لحياته .. حياته الصقر، وفلسفته الصقر ، حتى قصة نهاية حياته كانت
مع الصقر وذلك حين حشر مع عدد كبير من أفراد قبيلته بسيارة الشحن التابعة للجيش
الإيطالي التي يفترض أن تنقلهم إلى الميناء عبر وادي البردي العميق لنقلهم إلى
معتقل العقيلة عبر البحر ، وحينها فكّ أربطة صقره (الكمامة والسبق) وودعه وهو يحلق
بعيدا عنه حتى اختفى بين السحب فسالت دموعه لفراقه .. وما هي إلا لحظات حتى انقلبت
السيارة في الوادي وتدحرجت من أعلى إلى أسفل ورمت بركابها على ضفة الوادي ومات
العديد من الركاب وجرح العديد منهم .. وكان حمد الصيد أحد الشهداء في هذا الحادث ..
وهكذا رسم القدر لوحة المشهد الدرامي الأخيرة لقصة الصياد وصقره .
لقد روت لي هذه القصة والدتي أنا كاتب الموضوع ، حيث
كانت طفلة من ضمن ركاب تلك الشاحنة الإيطالية المشؤومة ..
بهذا الإرث الكبير يدخل رسلان الحبوني عالم الصقور
والبيزرة ليصبح واحدا من أشهر الصقارين العرب .. كان فن البيزرة هو لب الحياة ..
كان هو المحور الذي تدور حوله كل حياته ، أما متطلبات الحياة الأخرى فكانت ثانوية
في عرفه .. أعطى تربية الصقور زخما من الأفكار والفنون والإبداعات لم تكن معروفة
قبله ، فصار مدرسة لكل الصقارين .. كان هو المرجعية ، فإذا اختلف اثنان على نوع من
الطيور أتوه ليقول القول الفصل .. وإذا حدثت مشكلة بين الصقارين كان قوله هو الحل
فصار كلامه عرفا يحتكم إليه الصيادين .. أما طرق علاجها وأمراضها واستبدال الريش
المكسور فكان له أسلوبه الخاص في كل ذلك .. كان يدلل صقره كطفل صغير فتنشأ بينهم
علاقة حميمة ولغة خاصة ورابطة روحية .. إنه امتزاج بين الصقر والإنسان لا مثيل له
.. لم يعرف عنه أنه باع صقرا في حياته .. بعث إليه أحد الأمراء الخليجيين صكا
مفتوحا مقابل أحد الصقور التي يملكها فرفض بشدة قال : " لو طلبت أحد أبنائي لأعطيته
لك ، أما هذا فلا " .. هكذا كان عشقه للصقور .. هيام لا مثيل له حتى فاقت شهرته
خارج ليبيا مما جعل الكثير من الملوك والأمراء يوجهون له الدعوة للصيد معهم ، وكان
ممن وجه إليه الدعوة المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله رئيس الإمارات
العربية المتحدة .. يقول الحاج رسلان عن هذه الرحلة وعن الشيخ زايد : " كانت رحلة
ممتعة ورائعة .. كان شيخا وأميرا ورئيسا وكنت مواطنا متواضعا فلم أشعر بهذه الفروق
بيننا ولم يشعرني بأنه رئيس .. كنا صيادين جمعتنا رياضة الأجداد .. كان يهتم بها
ويتابع كل ما يتعلق بها فأقام مراكز بحثية ومستشفيات للصقور وعلاجها وتكاثرها
صناعيا .. كان يقول " يجب الاهتمام بهذه الرياضة لأنها تراث عربي يميزنا نحن العرب
.. منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها يحمل صقره على يده عرفت فعلا أنه صقار من
الطراز الأول متقنا فن البيزرة ..ومن تعامله مع صقره وطريقة إطلاقه على الفريسة
تشعر بأنه إنسان ورث هذه الرياضة عن أجداده .. لقد تبادلنا طرق الصيد في كل من
ليبيا والإمارات كما تناولنا شعر الصقور في بلدينا ولم نجد ذلك الاختلاف الكبير ..
كان يقول نحن بلد واحد وأمة واحدة .. لقد نشأت صداقة حميمة بينه وبين الحاج رسلان ،
واستمرت هذه العلاقة بينهما حتى وفاة الحاج رسلان في طبرق حيث بعث ببرقية تعزية
لأهله وأبنائه رحمهما الله ...
كما كان للصقار رسلان الحبوني علاقات واسعة مع كثير من
الأمراء الخليجيين ، وقد أهدى أحد صقوره إلى الملك خالد بن عبد العزيز حين زار
ليبيا ، وكان نوع الطير الذي أهداه (عراقي) وهو النوع الوحيد من الصقور الذي يعشش
في أودية الجبل الأخضر .
كانت حظيرته تضم من سبعة إلى عشرة صقور ، يتفقدها يوميا
ويشرف على نظافتها ونظام أكلها .. أشهر طيوره (لربد) الصقر الذي رافقه اثنا عشر
عاما ، وقد ضاع منه مرة وعلم أنه في مدينة أجدابيا فذهب لاسترجاعه ، غير أن الرجل
الذي وجده طلب منه |أن يأتيه بعلامة فيه ، فطلب منه الحاج رسلان أن يفك قيوده في
إحدى الغرف الداخلية ، ثم دعني أناديه فإن لم يأت فهو لك .. وفعل الرجل ما طلب منه
.. وحين ناداه بصوت عالي باسمه (لربد) جاء من بين الممرات ليحط على يده بالمربوعة
(دار المضيفة) فذهل الحاضرون وتأسفوا له وأكرموه وعاد به إلى طبرق ..وكثير هي القصص
الصقرية التي تروى عنه .
ومما يثير الدهشة في هذه الأسرة الصيادة أن أخاه عبد
الرحيم بوالزقمة وافته المنية وهو في رحلة صيد بوادي المرا ، وكذلك أخوه أرجاعي
الذي مات وهو يحمل صقره على يده في رحلة صيد جنوب منطقة أمساعد
وكانت لرسلان رحلات متعددة في الصحاري العربية والصحراء
الليبية متنقلا مع أصدقائه في رحلات ما زالت تذكر حتى الآن .. أعطى فن البيزرة كل
ما عنده .. عاش لها وبها حتى آخر لحظة وقد كان يستعدّ لرحلة صيد جنوب الجبل الأخضر
ولكنه أصيب بنوبة قلبية دخل على أثرها مستشفي الثورة بالبيضاء حيث وافته المنية
سنة 1984 ، وعاد صقره إلى طبرق دون اليد التي كانت تحمله .. وقد رثاه الشاعر الشيخ
علي بوغنيوه الجويفي بقصيدة يقول مطلعها :
الدايم الله رسلان سمح الصورة |
ما من عقيرة داسها بطيوره |
وهكذا يسدل الستار على حياة صياد أعطى لهذا الفن زخما
قويا وما زال أبناؤه وعائلته يهتمون بهذا الإرث ، يسيرون على نفس المدرسة ويجوبون
صحاري البطنان والواسعة بصقورهم حتى اليوم