تنحدر الصقور من فصيلة الصقريات التي تنقسم إلى ثلاثة أنواع هي : العقبان ، النسور ، والصقور .. و النوع الأخير هو الذي نتحدث عنه
و الصيد عامة ً مهنة مارسها الإنسان منذ أن كان بدائياً في الغابة ، فهي من أقدم المهن التي مارسها ، فقد وجدت رسومات الإنسان القديم في ليبيا ، في رسومات ما قبل التاريخ ، في جبال أكاكوس و العوينات و الهاجار في الصحراء الليبية تبين كيف كانت تمارس طقوس الصيد على شكل جماعات . أما الليبي اليوم فقد عرف هذه المهنة أو الرياضة من آبائه و أجداده وتوارثها جيلاً بعد جيل .
و الليبي يعتز بصقره و يفتخر به ، فعندما يضعه على يده يشعر بأنه شامخاً كشموخ صقره لا شيء في الدنيا يساوي ذلك الشعور ، و كأن العالم كله واقع تحت أقدامه.
تختلف تربية الصقور في ليبيا عن تربيتها في كثير من البلدان ، فإذا كانت في أوروبا يمارسها الملوك و الأباطرة ، و في المشرق يمارسها الأمراء و الحكام ، ففي ليبيا عكس ذلك حيث ممارستها تكون عند العامة من الناس ، بل كثيراً ما كان الفقراء هم ممارسوها حيث يصطادون الأرانب و الحبارى و الكروان و غيرها من الطيور للحاجة وليس للمتعة .
و كان الصياد صاحب الصقر إذا انتهى موسم الصيد يخلي سبيله و يحرره ، لأن الصقر يحتاج إلى اللحم يومياً بينما صاحبه لا يجد ذلك .
و يستمر كذلك إلى أن يأتي موسم الصيد فيصطاد صقراً آخر و يدربه و يصطاد به ، و هكذا كانت عادة الصيادين قديماً قبل أن تصبح كما هي الآن ( تجارة و عمل ) .
إن الصقّار الحقيقي لا يمكنه أن يبيع صقره لأنه يعتبر ذلك عيباً و نقصاً في شخصيته حتى لو عرضت عليه الأموال ، و الشواهد على ذلك كثيرة في قصصنا الشعبي لا يتسع المجال لسردها .
و لعل المثل الشعبي الليبي خير دليل ( اللي ما يعرف الصقر يشويه )، فمن لا يعرف قيمة الصقر يمكنه أن يفعل به أي شيء .
و إذا مات الصقر فلا يرمى به؛ بل يجب أخذه ودفنه باحترام و يتقبّل صاحبه عزاء الأصدقاء فيه؛ بل إن ضياع الصقر و فقده يعتبر أمراّ صعباً عند صاحبه ، و هذا صقّار ضاع منه صقره يقول :
" بوريش بودرع فيه انصفاقا .. مشى ابنعزاقا .. دموعي اموازيب ليلة فراقا " و يعني حزنه الشديد على فراقه.
يتمتع الصقر بمظهر خارجي جميل و ساحر يوحي لناظره بالعظمة و الكبرياء ، العين زرقاء لا يحيط بها بياض ، من أجمل العيون ، و هذا ما جعل الكثير من الشعراء يشبهون عيون النساء بعين الصقر ، يقول الشاعر الشعبي :
نظرت لا وين عين النداوي – مو خير ناوي – تركته بعد ريت عنده جلاوي
نظرت لا وين عين البحاري – لذيذ السهاري – امعا غيرنا بصوب بايع و شاري
نهيتن بلا عيب ردن أنظاري – ونا كنت غاوي – نسيته بعد كان حد الشهاوي .
و النداوي و البحاري أنواع من الصقور و الشواهين .
و كثيراً ما يتردد في شعرنا الشعبي و أمثلتنا الشعبية وصف عيون النساء بعيون الصقور.. " عين اللي بسباقا درَّب - جار على ابناره خرَّب " .
منقار الصقر خلق معقوفاً إلى الأسفل مما يعطيه كفاءة أكثر لتمزيق فريسته ، و جسم منساب إلى الخلف و مغطى بريش كثيف ما يتيح له فرصة أكبر للإنزلاق و المراوغة وسّط أعتى التيارات الهوائية .
ومن الصفات المحببة في الصقر طول الأجنحة و قصر الذيل و كبر الجسم ، و ذلك يعطيه فرصة أكبر للمراوغة و مطاردة الفريسة .
الأصابع طويلة و مزوَّدة ببراثن حادة بحيث إن قبض على الفريسة يستحيل إفلاتها .
من الصفات الجيدة في الصقر صغر الرأس حتى أنهم يشبهون رأسه برأس الثعبان ومن الصفات الجيدة أيضاً كبر المنخر و سعة الصدر و انتصاب المنكبين إلى الأعلى و قصر عظمة الساق و غلظ الأفخاذ . و أفضل الأنواع الصقور و الشاهين و هي الموجودة بكثرة عند الصياد الليبي عبر العصور ، و كل منها له تفاصيل و أنواع يعرفها الصقارون ، لكن الأفضل كما يقول الموروث القديم :
" خيار الشواهين بودور – و خيار الصقور النداوي "
" و خيار الخدم جاي من فور – و خيار العبيد التباوي "
إن المأثورات الشعبية الليبية تعطي فكرة واضحة على أن الليبيين قد برعوا في تربية الصقور و تصنيفها و تربيتها و تدريبها .
و عرف العرب القدماء الصيد بالجوارح كما عرفوه في العصر الإسلامي ، و قد ورد أن حمزة ابن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه و سلم كان صيّاداً ، و عندما أعلن إسلامه أمام النبي كان يحمل على يده صقراً . و ذكر أن أول من درب صقرا و حمله كان معاوية بن ثور الكندي ، و قد اشتهر الكثير من الأمراء و الخلفاء بالصيد بالصقور و منهم يزيد بن معاوية و الوليد بن عبد الملك – و المستنصر الحفصي و هشام بن عبد الملك ، و كان لكل أمير بيزار و هو الذي يهتم بأمور الصيد و النزهة .
و تحدثت كثير من أمهات الكتب العربية عن فن الصيد بالصقور منها كتاب " مروج الذهب " للمسعودي و كتاب " الحيوان " للجاحظ " و " المخصص" لأبن سيدة و " صبح الأعشى " للقلقشندي . و قد ذكر ابن النديم في " الفهرست " عدداً كبيراً من الكتب عن الصيد لم تصلنا لضياعها .
و في فترة الحروب الصليبية تأثر الأوروبيون بكثرة من مظاهر الحضارة الإسلامية و ما شاهدوه في الشرق الإسلامي ، و كان ممّا شاهدوه و أعجبوا به الصيد بالصقور عند العرب .
و قد أعجب الإمبراطور " فردريك الثاني "إمبراطور صقلية ( 1198 – 1250) بما شاهده عند العرب من عادات الصيد فأعجب إعجاباً كبيراً بذلك . و في الحملة الصليبية الثامنة التي قادها يقول : " لمّا عبرنا إلى فلسطين رأينا العرب يكمّمون الصقور و أرسل إلينا ملوكهم أمهر الصقارين و معهم أنواع كثيرة من الصقور " ، و قد صنف فردريك الثاني كتاباً عن أساليب العرب في تكميم الصقور و قام بنقل ذلك إلى أوروبا .
و تحفظ مكتبة " بودليان " بجامعة أكسفورد مخطوطة هامة عن الصيد بالصقور بعنوان " منافع الطير " للحجاج بن خيثمة ، و قد كتبها بطلب من الخليفة المهدي الذي أهداها إلى عظيم الرومان " ميخائيل بن ليون " رداً على هدية بعثها إليه .
الصقر و الشاهين أفضل أنواع الطيور الصيادة ، و لكل منها ميزة خاصة ، فالصقر قوي البنية يفضله الصيادون على الشاهين نظراً لتحمله الصيد و الطرد أكثر و هو صبور على الجوع ، قوي البصر يرى الحبارى من مسافة بعيدة لشدة نظره ، حيث يرى ما يساوي رؤية الإنسان ثمان مرات ، كما أنه يتحمل المعارك الشديدة مع ذكور الحبارى المسمّاة شعبياً " دوَّار " لكنه يبقى أقل سرعة من الشاهين و قد تفلت منه الحبارى .
أما الشاهين فإنه سريع الطيران ، لا يمكن لفريسته أن تفلت منه ، لكنه سريع الغضب لا يتحمل الجوع عكس الصقر .
و الصقور أنواع أفضلها " الحصاوى و النداوي " .. و الشواهين أنواع أيضاً أفضلها ما يعرف محلياً " نوار فول " و هو مرقط يشبه زهرة الفول ، و منها بودور و غيرها من الأسماء المحلية الكثيرة .
ترتكز عملية الصيد عند الصقور على عنصرين رئيسيين هما عنصري السرعة والمفاجأة ، فكثيراً ما يطير الصقر في الاتجاه المعاكس للفريسة و يحدد هدفه على بعد 2 كيلو متر ، كما يحدد بغريزته الزاوية الأفضل لتوجيه ضربته و السرعة اللازمة لذلك و فرصته للإفلات بالفريسة ، و ينقض الصقر باتجاه الطريدة و جناحاه ملتصقان بجسمه فتسمع دوي صوته و هو يخرق الهواء و قد تصل سرعته حين انقضاضه إلى 420 كم في الساعة ، ينقض على الطريدة أو الفريسة في زاوية متغيرة من 30 إلى 40 درجة على خط الأفق ، و يحتاج إلى ما يقرب عشر انقضاضات للظفر بفريسة واحدة . و هذه المحاولات يختبر فيها فن المراوغة عند الفريسة إلا أنه يوفر كل قواه للانقضاضة الأخيرة التي عادة ما ينهي فيها تلك اللعبة غير المتكافئة لصالحه ، وقد تفلت منه فريسته فيكرر المحاولة دون ملل .
إن تلك الصورة الجميلة للصقر المنقض على الفريسة لفتت مشاعر الشعراء و سحرتهم فاستعاروها في قصائدهم العربية لوصف الغيد الحسان ، كما يقول الشاعر المرحوم ( أعروق بومازق ) رداً على شاعر قد خاطبه قائلاً :
" تهايا قديم الغلا يا أعروق – و جتني تسوق العين دمعها سيل مزنه أبروق "
فيرد :
" تهايا قديم الغلا بالصحيح – و منه جريح –
عيون من رقى وين هبت الريح – تعلالها فوق –
خلا ردفها عالوطاه امعزوق - و عاد ريشها من اضفاره وزايع –
كما تبن فوق – خذنه مذاري مع ريح روق "
من قصيدة للشاعر المرحوم " حويل بو سعد العوامي "
يصف فيها صقراً يصطاد يقول :
مكبوس النظر ما جاب يوم أحبارا – و لا نجع قدام الجرير أديارا
ولا صقر طايب عالحبارى عادى – أمدّرج عليد حويل هو بزّارا
جلليلة لحظها في خلى مدادى – أنذاحت و حاست من لذيذ مطارا
تنوقحلها بالريح بين جلادى – أدقول عبد متعضد السوق اجزارا
اللي شكلها طاحت امنول بادي – يشيل في النواني فوق روس اضفارا
و يقول الشاعر المرحوم " روفه الدعبوب " من منطقة التميمي :
مكيون خاطري منه اتموج بياسا – اعيون من أغلى شيله على القناصا
انموج بنارا – عيون من غلى شيله على البزارا
نداوي امجنس وافيات اسرارا – واجد أغلى واجد على جناسا
فكو اكمامته بوع و شاف احبارا – بزار حتم عالصيد فك اقلاصا
الصحفق مع جوه خفيف مطارا – و تمم على صيدا و خذ مقياسا
و طبق جناحاتا و شن الغارا – دمه وريشه عالوطاه أكداسا
و ها هو نفس الشاعر يصف صقراً له كان يصطاد به لكنه في إحدى رحلات صيده أطلق صقره فاتجه بعيداً و لم يعد إليه ..
يقول :
حاحيتله نكّر على مدعاته – لا شورها بوّع و لا شطاته
نكر على بزارا – و حاحا وراه و كل شي له دار
تعلى سكن خش السحاب توارا – و حتى النظر للعين ما حياته
و رياح النسوم لدمعها ذرذارا – و في كل جيها خاليا لجاته
ولا جو عليه يبشروا دوارا - و لا اللي لفا وان العشا ومباته
معى رحلة العودة عمد موكارا – مطلوق السراح و رحلته اوتاتا
كثيراً ما يطلق الصياد صقره للصيد لكنه لا يعود إليه كما لاحظنا في القصيدة ، فالصقر مهما طالت تربيته فقد يفلت و لا يعود لصاحبه و خاصة في موسم التزاوج حيث الغريزة تعود به إلى حياته الطبيعية ، و الصياد المتمرس لا يطلق صقره في أيام الحر الشديد ، فالصقر عندما يجد الجو بارداً يغريه و يتجه إلى أي جهة أخرى ، و هذا أحد الصيادين يطلق صقره فيتجه إلى أعلى حتى يختفي عنه ، يناديه و لكنه لا يجيبه ،
فيقول :
حاحيتله ما عنابي – امتبع جلاوي اعيونه
كما عبد يرقى ابملقاط – و حال غيم لمزان دونه
و من أقوالهم في الصقور:
موزغزغى بالشنابات – نوار فول و لا نداوي
ان حطت سليم الجناحات – ون فكت ايجيها ايساوي
و الشاعر الصقار لكثرة ملحوظته للصقور حين تصطاد وجد أنه لكل صقر أيديولوجيه خاصة به في المطاردة ، فبعضها يطير على وجه الأرض حتى يكاد يلتصق بها ، و البعض يتجه في اتجاه معاكس للفريسة ، و البعض يرتفع إلى مسافات عالية ثم ينقضّ . لذلك
يقول شاعر مشبهاً اختلاف البشر في سلوكياتهم و تصرفاتهم باختلاف الطيور في مطارها ..
يقول :
الناس كي مطارات الطيور – و كي بتعها في الجوادة
أهناك طير من مركز أطيور – و يعرف جلاوي الصيادة
إن حوحملها بالتكارير – أتموت و هي في الحمادة
و هناك طير لا إيقيم تبزير – و لا قنوته مستفادة
و نلحظ أن تأثر المجتمع الليبي بهذا الموروث الثقافي جعله يطلق أسماء الصقور على الأشخاص فتجد اسم – صقر – شاهين – اسقاوة – كما أن أسماء المحال و الأندية تحمل هذه الأسماء . و لجمال الصقور جعلوها رمزاً للشموخ و الكبرياء ، فأخذتها الجيوش شعارات لها و رسمت صورها على أعلام الدول ، كما كان الصقر رمزاً مقدساً في حياة الفراعنة .
...